يأتي بعض القادة إلى مواقعهم مثقلين بدرسٍ واحد: أن المنصب هو الذي يصنع صاحبه. لكن الدكتور قاسم بريه يقدّم النموذج المعاكس تماماً؛ فهو من أولئك القلائل الذين يصنعون المنصب بالقدر نفسه الذي يصنعون فيه الفرق. رجلٌ يفيض إنسانية قبل أن يفيض قرارات، ويقدّم فعلاً عملياً قبل أن يقدّم خطاباً إنشائياً. شخصية تفرض احترامها ليس بارتفاع الصوت، بل بارتفاع المعنى.
من يتأمل سيرته المهنية يدرك أن نجاحه الإداري لم يكن وليد دورة تدريبية ولا منحة خارجية، بل وليد تلك الخلطة النادرة من الفطرة الإدارية، وانضباط التفكير، وذكاء التعامل مع البشر قبل الأنظمة. لم يكن يوماً ذلك المدير المتحصن باللوائح، بل القائد الذي يعرف كيف يجعل اللوائح في خدمة الإنسان، وكيف يجعل الإنسان في قلب العملية الإدارية لا في هامشها. وهذه وحدها صفة لا تملكها معظم المؤسسات بقدر ما تملكها القامات.
في بيئات العمل التي تقلّ فيها النماذج القيادية الحقيقية، يبرز الدكتور قاسم بريه بوصفه مدرسة قائمة بذاتها؛ فهو يعرف كيف يحوّل العمل من واجبٍ يومي إلى قيمة، ومن مهمة إلى رؤية، ومن فريقٍ مشتت إلى كيان منسجم. يمتلك قدرة قلّما تتكرر في الجمع بين الحزم الذي يحرس النظام والمرونة التي تحفظ الكرامة. إنسان إذا تعاملت معه تشعر أنك أمام عقلٍ إداري ناضج، وإذا اقتربت منه كإنسان تشعر أنك أمام قلبٍ لا يبحث عن المكانة بقدر ما يبحث عن الأثر.
ولأن الإدارة ليست أوراقاً وختمًا فحسب، بل هي فن هندسة العلاقات وبناء الثقة، فإن بصمته تظهر في أدق التفاصيل: في قدرته على احتواء الخلاف قبل أن يستفحل، في دهائه الهادئ الذي يلتقط مكامن القوة في كل فرد، وفي مهارته بتوجيه البوصلة نحو هدف واحد مهما تناثرت الاتجاهات. يعرف كيف يسمع أكثر مما يتكلم، وكيف يحوّل الإصغاء إلى قرار، وكيف يحوّل القرار إلى التزام جماعي لا مجرد تعليمات مكتبية.
أما على المستوى الإنساني، فهو نموذج للرجل الذي يحتفظ بقلبه مهما تعاظمت مسؤولياته. لطيف في حضوره، رقيق في تعامله، حاسم عندما يتطلب الموقف ذلك، وعادل حين يتنازع الآخرون بين الهوى والمصلحة. يعيش قناعاته لا شعاراته، ويقدّم إنسانيته قبل ألقابه، ويمنح الآخرين مساحة ليكونوا أفضل مما هم عليه، لا ليكونوا ظلّاً له.
قد يختلف الناس في تقييم كثير من الشخصيات، لكن الإجماع حول الدكتور قاسم بريه ليس صدفة. لأنه ببساطة شخصية يصعب أن تراها ولا تلتقط تأثيرها، ويصعب أن تعمل معها دون أن تتعلم منها، ويصعب أن تقرأ سيرته دون أن تجد فيها قدراً من الإلهام العملي والهدوء القيادي الذي بات نادراً في زمن تشظّت فيه المعايير وتصدّعت فيه القيم المؤسساتية.
الدكتور قاسم بريه ليس مجرد إداري ناجح، بل هو صيغة مكتملة لقائدٍ يحوّل الإدارة إلى ممارسة إنسانية راقية، والإنسانية إلى منهج إداري ملهم. وفي زمنٍ يندر فيه هذا النوع من القادة، يصبح الاحتفاء به احتفاءً بالقيم التي يمثلها، وبالنموذج الذي يثبت أن القيادة الحقيقية تبدأ من الإنسان قبل المكتب، ومن الأخلاق قبل الأختام، ومن ال
رؤية قبل الموقع.
.jpg)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق