الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025

نجيب السحلي: حين يصبح القانون ضميرًا والمحاماة فعلَ انحيازٍ للمظلومين


في مشهدٍ حقوقيٍّ مثقلٍ بالانتهاكات، ومناخٍ عامٍّ تتراجع فيه ثقة الناس بالقانون بوصفه ملاذًا أخيرًا للعدالة، يبرز اسم بوصفه نموذجًا مغايرًا للمحامي، لا باعتباره ممارسًا لمهنة فحسب، بل باعتباره ضميرًا حيًّا يعمل داخل حقلٍ شائكٍ لا ينجو فيه إلا من جمع بين المعرفة والشجاعة، وبين القانون والأخلاق.
لم يكن نجيب السحلي محاميًا تقليديًا يكتفي بتمثيل موكليه داخل أروقة المحاكم، بل اتخذ من المهنة موقفًا، ومن القانون أداةً للدفاع عن المظلومين، ومن العدالة غايةً لا تُقايَض. في قضايا كثيرة، بدا واضحًا أن انحيازه الأول لم يكن للنفوذ ولا للسلطة ولا للمال، بل للإنسان المجرد من كل سند، ذلك الذي لا يملك سوى مظلمته، فيجد في السحلي صوتًا لها، وعقلًا يحسن صياغتها، وإرادةً لا تساوم على حقوقها.
ما يميّز تجربة السحلي المهنية هو التزامه الصارم بأخلاقيات المهنة؛ فالقانون عنده ليس حيلة إجرائية ولا لعبة نصوص، بل منظومة قيم. يتعامل مع خصومه باحترام، ومع القضاء بثقة، ومع موكليه بصدقٍ لا يعرف المواربة. هذا الالتزام الأخلاقي منحه مصداقية نادرة في واقعٍ مهنيٍّ كثيرًا ما تشوبه الانتهازية، وجعل اسمه مقترنًا بالثقة قبل أن يكون مقترنًا بالربح أو الشهرة.
إنسانية نجيب السحلي ليست شعارًا يُرفع، بل ممارسة يومية. تظهر في حرصه على الاستماع، وفي تفهمه لتعقيدات الناس الاجتماعية والنفسية، وفي إيمانه بأن العدالة لا تُختزل في حكمٍ قضائي، بل تبدأ من احترام كرامة الإنسان. لذلك، لم يكن غريبًا أن يتحول مكتبه، في نظر كثيرين، إلى مساحة أمل أكثر منه مجرد عنوان قانوني.
وتتجسد هذه القيم بشكلٍ أوضح في دوره رئيسًا للجنة الحقوق والحريات بنقابة المحامين في الحديدة؛ وهو موقع لم يتعامل معه باعتباره منصبًا شرفيًا، بل مسؤولية نضالية. من هذا الموقع، خاض معارك قانونية وحقوقية دفاعًا عن الحريات العامة، ووقف في وجه الانتهاكات، وسعى إلى ترسيخ دور النقابة كحارسٍ للحقوق، لا ككيانٍ صامتٍ أمام تغوّل السلطة أو عبث الواقع.
لقد مثّل السحلي، من خلال هذا الدور، صوت المحامين حين يُقمعون، وصوت المواطنين حين تُنتهك حقوقهم، ووسيطًا مهنيًا بين القانون بوصفه نصًا، والعدالة بوصفها مطلبًا اجتماعيًا. وفي زمنٍ يختلط فيه القانون بالقوة، ويُختبر فيه معنى الحرية كل يوم، يظل وجود شخصيات من طراز نجيب السحلي ضرورة لا ترفًا.
إن الكتابة عن نجيب السحلي ليست احتفاءً بشخص، بقدر ما هي تذكيرٌ بصورة المحامي كما ينبغي أن يكون: نصيرًا للمظلومين، أمينًا على المهنة، منحازًا للإنسان، ومدافعًا صلبًا عن الحقوق والحريات. وفي هذا المعنى، فإن سيرته المهنية تمثل درسًا أخلاقيًا قبل أن تكون تجربة قانونية، ونموذجًا يُحتذى في زمنٍ أحوج ما يكون فيه الناس إلى العدالة، لا بوصفها شعارًا، بل ممارسةً حيّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق