في سجلّ التعليم اليمني، ثمة أسماء لا تُذكر بوصفها مجرد شخصيات أكاديمية أو إدارية، بيل كعناوين مضيئة في مسار النهضة التربوية، وأحد هذه الأسماء التي صارت جزءًا من ذاكرة الحديدة العلمية هو الأستاذ الدكتور قاسم محمد بريه؛ الرجل الذي لم يكتفِ بأن يكون معلّمًا أو إداريًا ناجحًا، بل جسّد فكرة "المؤسسة في شخص"، حينما التقت فيه الرؤية التعليمية الواعية مع روح القيادة المتوازنة، والإنسان قبل المنصب.
منذ بداياته الأولى، كان واضحًا أن الرجل لا ينظر إلى التعليم كمهنة، بل كمشروع وطني يحتاج إلى من يُشعل له أول شمعة. فحين أسس كلية التربية في الحديدة، لم يكن يبني مجرد مبنى أكاديمي، بل كان يضع اللبنة الأولى لجامعة الحديدة نفسها، فاتحًا بذلك باب الأمل أمام آلاف الطلاب الذين وجدوا في هذه المؤسسة أول سلمٍ نحو المعرفة الجامعية داخل محافظتهم. ومن هناك بدأت الحكاية تتسع، لتتخذ شكلًا من أشكال البناء المتدرج الذي جمع بين التخطيط الصبور والرؤية المتطلعة.
لكنّ طموح الدكتور قاسم لم يتوقف عند حدود الجامعة، إذ أدرك مبكرًا أن التعليم لا يبدأ في القاعات الجامعية، بل في المدارس التي تُشكّل وعي الجيل منذ طفولته. وهكذا أسّس في عام 1989 مدارس الحديدة الحديثة للغات، لتكون أول مدرسة خاصة تُعنى بتعليم اللغات في المحافظة، فاتحًا الباب أمام تجربة التعليم الأهلي المنظّم في مدينة لم تعرف من قبل هذا النوع من المبادرات الريادية. لقد كان في نظر كثيرين رائد التعليم الأهلي الحديث في الحديدة، لأنه وضع أسسًا تعليمية سبقت زمنها، واستشرفت حاجة المجتمع إلى تعليم نوعي منفتح على العالم.
حين تولى الدكتور قاسم رئاسة جامعة الحديدة، لم يأتِ ليُديرها كموظف، بل ليحوّلها إلى كيان حيّ نابض بالحيوية. في عهده تحوّلت الجامعة إلى فضاء أكاديمي متنوّع، إذ أُنشئت كليات جديدة لم تكن مألوفة في السياق اليمني آنذاك مثل كلية الفنون الجميلة وكلية علوم البحار، وهما تخصصان يعكسان نظرته المستقبلية للمجتمع الساحلي وللثقافة اليمنية. أراد أن تكون الجامعة مرآةً لهوية المدينة البحرية، وأن تجمع بين العلم والفن، بين البحر والإبداع، في معادلةٍ لا ينجزها إلا من يفكر خارج المألوف.
وما بين تلك الكليات الجديدة ومؤتمراته العلمية السنوية التي كانت تُنظَّم بمشاركة باحثين من أنحاء العالم، استطاع الدكتور قاسم أن يرفع اسم جامعة الحديدة إلى مصاف الجامعات العربية المرموقة. لم يكن يكتفي بإدارة الأكاديميين، بل كان يصنع بيئة فكرية خصبة، تعيد إلى الجامعة معناها الحقيقي: بيتًا للعلم والحوار والبحث.
في شخصيته الإدارية، امتلك كاريزما فريدة جمعت بين الحزم والمرونة، وبين القرار والرحمة. عرف متى يكون صارمًا في المبدأ، ومتى يكون إنسانًا في الموقف. ولعل سرّ احترام زملائه وطلابه له يكمن في هذه المعادلة النادرة التي قلّما تجتمع في إداريٍّ جامعي. فقد كان يرى في كل موظف أو أستاذ أو طالب امتدادًا لرسالة الجامعة، لا مجرد رقم في هيكلها التنظيمي.
ولأن الانتماء عنده كان للوطن قبل أي اعتبار، رفض كل أشكال المناطقية التي كانت تهدد نسيج المؤسسات التعليمية. في عهده، تحولت جامعة الحديدة إلى لوحة وطنية متكاملة، ضمّت كفاءات من مختلف المحافظات اليمنية، دون تمييز أو محاباة. فكانت العدالة لديه مبدأً لا شعارًا، والتنوع قيمة لا صدفة.
حتى بعد أن غادر موقعه الإداري، ظلّ حضوره الإنساني مؤثرًا في محيطه. لم تفارقه بساطته أو دفء تعامله، وبقي الباب إلى مكتبه – كما إلى قلبه – مفتوحًا للجميع. يُذكره من عمل معه لا كرئيس جامعة، بل كأخٍ كبير يشاركهم الهمّ ويواسيهم في الشدة. لقد كان حضوره طاقة طمأنينة، ومن حوله يشعرون أن القيادة يمكن أن تكون إنسانية بلا ضعف، صارمة بلا قسوة.
ولعلّ أجمل ما يُقال في الدكتور قاسم محمد بريه أنه لم يكن مجرد مسؤول ناجح، بل كان حالة تربوية متكاملة، تركت أثرها في المكان والإنسان معًا. فمحبته التي لا تزال تملأ القلوب لم تُبنَ على سلطة، بل على مواقف، ولم تُفرض بقرارات، بل صُنعت بإنجازات.
إن سيرته ليست مجرد فصلٍ في تاريخ جامعة أو محافظة، بل صفحة من صفحات التعليم اليمني الحديث، تذكّرنا بأن القائد الحقيقي هو الذي يربّي مؤسسات لا تتهاوى برحيله، ويزرع قيمًا تبقى حية بعد أن يغادر المكتب. فمثل هؤلاء لا يغيبون؛ لأن أثرهم يظل ممتدًا في كل خريجٍ، وفي كل فكرةٍ نمت في ظلال ما بنوه.
وهكذا، يبقى الدكتور قاسم محمد بريه شاهدًا على مرحلةٍ مضيئة في تاريخ التعليم اليمني، ورمزًا لما يمكن أن يصنعه الإخلاص حين يقترن بالكفاءة والرؤية والإنسانية. شخصية من طرازٍ نادرٍ، أثبتت أن التعليم ليس وظيفة، بل رسالة، وأن أعظم القادة هم أولئك الذين يُعلّمون الناس كيف يكون البناء فعلًا من أفعال الخير الدائم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق